القائمة الرئيسية

الصفحات

المقدمة:

 قبل أن نبدأ في عرض بحث الخضر وآثاره بين الحقيقة والخرافة، أُشدد على أهمية قراءة الجزء الأول من بحث الخضر لتفهم ما سأقوله في الجزء الثاني هنا والآن ولقراءة الجزء الأول أضغط هنا. والآن من المهم جدًا توضيح أنني في بحث الخضر أحاول أثبات نظريتان فقط، وهيَّ نظرية خلوده وبعد ذلك نظرية نبوته.   

الخضر - بحث الخضر وآثاره الجزء الثاني
الخضر - بحث الخضر وآثاره الجزء الثاني

أولًا: ما هو النسب الصحيح للخضر؟

عن وَهْبِ بن مَنبهٍ، أن أسم الخضرِ هو: «بليان بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن ارفشخْذ بن سام بن نوح عليه السلام».
قال اسماعيلُ بن أبي أوُيسٍ أسمُ الخضرِ فيما بَلَغَنا هو «المُعَمَّرُ بن مالِك بن عبد الله بن نصر بن الأزد».
قال غيره: هو «خضرُون بن عماييلَ بن اليفز بن العيص بن إسحاقَ بن إبراهيم عليه السلام».
وقيل إنه كان نبيًا في زمن بشتاسب بن لهراسب وهو ضعيف.
وقال ابنُ جَريرٍ والصّحيحُ: إنه كان متقدمًا في زمن أفريدونَ بن أثفيانَ، حتى أدركه موسى عليه السلام. وروي الحافظُ بن عساكر عن بن المسَّيبِ أنه قال: الخضرُ أمه رومية، أبوه فارسي. قد رواه ابن الجوزي، في كتابه (عجالة المنتظر في شرح حال الخضر)، وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى السدي، أن الخضر وإلياس كانا أخوين، وكان أبوهما ملكًا، فقال إلياس لأبيه: إن أخي الخضر لا رغبة له في الملك، فلو أنك زوجته، لعله يجيء منه ولد يكون الملك له. فزوجه أبوه بامرأة حسناء بكر، فقال لها الخضر: إنه لا حاجة لي في النساء، فإن شئت أطلقت سراحك، وإن شئت أقمت معي تعبدين الله، عز وجل، وتكتمين على سري. فقالت: نعم. وأقامت معه سنة، فلما مضت السنة، دعاها الملك فقال: إنك شابة وابني شاب، فأين الولد؟ فقالت: إنما الولد من عند الله، إن شاء كان، وإن لم يشأ لم يكن. فأمره أبوه فطلقها وزوجه أخرى ثيبا قد ولد لها من قبل (ولدت قبل كدا)، فلما زفت إليه قال لها كما قال للتي قبلها، فأجابت إلى الإقامة عنده، فلما مضت السنة، سألها الملك عن الولد، فقالت: إن ابنك لا حاجة له في النساء. فتطلبه أبوه فهرب، فأرسل وراءه، فلم يقدروا عليه، فيقال إنه قتل المرأة الثانية، لكونها أفشت سره فهرب من أجل ذلك، وأطلق سراح الأخرى، فأقامت تعبد الله في بعض نواحي تلك المدينة، فمر بها رجل يوما، فسمعته يقول: بسم الله. فقالت له: آنيٌ لك هذا الاسم؟ فقال: إني من أصحاب الخضر. فتزوجته، فولدت له أولادا، ثم صار من أمرها أن صارت ماشطة بنت فرعون، فبينما هي يوما تمشطها، إذ وقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله. فقالت ابنة فرعون: أبي؟ فقالت: لا، ربي وربك ورب أبيك الله. فأعلمت أباها، فأمر ببقرة من نحاس، فأحميت، ثم أمر بها، فألقيت فيه، فلما عاينت ذلك، تقاعست أن تقع فيها، فقال لها ابن معها صغير: يا أمه، اصبري فإنك على الحق.
إن هذا الملك هو ملكان بن فالغ الذي كان حاكمًا في زمن بني إسرائيل، وأيضًا معلومة أن الخضر وإلياس أخوة هي ليست صحيحة، فنص القصة أن ملكان اراد أن يتزوج أبنه كي لا ينقطع النسلُ، إذا كان إلياس أخو الخضر، لما لم يزوج ملكان إلياس بدلًا من الخضر؟ وبهذا يضمن عدم انقطاع نسله وانتهاء حكمه؟

ثانيَّا: لِما سمي الخضر بهذا الاسم؟

عن أبي هُـرَيرةَ رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال «إنما سُمي الخضر؛ لأنه جلس على فروة بيضاءَ فإذا بها تهتز من خلفِه خضراء» تفرَّد به البخاريُّ، وكذلك عبدُ الرازق. وهذا ما ثبت في الصحيح وهو أقوي وأولي، بل لا يلتفت إلى ما عداه.
فيما تقدم ايضًا أنَ موسى و يوشع عليما السلام، لمّا رَجَعا يَقُصَّان الأثرَ، وجداه على طِنْفِسَةٍ خضراء علي كَبد البحر والطِنْفِسَة هيَّ:(نمرقة والنمرقة هيا الوسادة)؛ وهو مُسجي بثوبٍ قد جُعِل طَرَفاه من تحتِ رأسه وقدميه، فسلَّم عليه موسى عليه السّلامُ، فكشف عن وجهه، فرد وقال إني بأرضِك السّلامُ منْ أنت؟ قال: أنا موسى، فرد عليه الخضرَ قائلًا موسى بني إسرائيل؟ فقال نعم. فكان مِن امرهما ما قصه ﷲ ﷻ في كتابه عنهما.

ثالثًا: هل هو نبي أم ولي من أولياء ﷲ الصالحين؟

بالرغم مما دلَّ سياق القصة على نبوته من وجوه إلا انه ما زال هناك بعض الاشخاص يقولون إنه ليس نبي! والأدلة على نبوته من كتاب ﷲ: ﴿فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا﴾ [الكهف: 65].
هذا الدليل الأول فالخضر قد تعلم علمه من ﷲ مباشرة، علمٌ لم يُعطي لموسى أو لغيره إنه علمُ الغيبِ بأمر ﷲ عز وجل.
الثاني قول النبي موسى: ﴿قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا (67) وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا (68) قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا (69) قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا (70)﴾.
فلو كان بولي وليس بنبي لمَّ يخاطبْه موسي بهذه المخاطبة، ولِمَّ يردَّ علي موسي هذا الردَّ، بل موسى إنما سأل صحبته لينال مِن عنده من العلم الذي اختصَّه ﷲ به دونه، فلو كان نبي لم يكنْ معصومًا، ولم يَكُنْ لموسى وهو نبيُّ عظيمٌ، ورسولٌ كريمٌ، واجبْ العِصْمةِ، كبير رغبة ولا عظيمُ طَلبَةٍ في علمِ ولي غير واجب العصمة كالخضر، ولما عزم علي الذهاب له والتّفتيشِ عليه، بل لم يكن ليمضي حقبًا من الزّمان، قِيل: ثمانين سنةً ثم لما اجتمعَ به، تواضَعَ له، وعظَّمه (كمعلم)، واتبعه في صورةِ مستفيدٍ منه، دلَّ علي انه نبي مثلُه، يُوحي إليه كما يوحي له، وقد خُصَّ مِن العلومِ الَّلدُنيَّةِ، و الأسرار النبويةِ بما لم يُطْلِع اللهُ عليه موسى الكليمَ، نبيَّ بني إسرائيلَ الكـريمَ؛ وكان يحتج بهذا المسْلكِ بعينه الرُّمـَّانى لإثبات نبوة الخضرَ.
الثالث: أقدم الخضر علي قتل الغلامِ، وما ذاك إلا من الوحى من ﷲ ﷻ، وهذا دليلٌ قوي يُثبت بنبوته، وبرهان ظاهر علي عصمته؛ فالولي لا يجوز له الإقدامُ على قتل النفس التي حرمها ﷲ إلا بالحق بمجرد ما يلقي في خلده، لأن خاطره ليس بواجب، إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق، ولما أقدم الخضر علي قتل ذلك الغلامِ الذي لم يبلغ، علمًا بأنه إذا بلغ يَكْفرُ، ويحمل أبويه علي الكفرِ لشدَّةِ محبتهما له، فيتابعانه علي الكفرِ، ففي قتله مصلحةٌ عظيمةٌ تَربو علي بقاء مُهجَتِه؛ صيانةً لأبويه عن الوقوع في الكُفرِ و عقوبته، دلَّ ذلك أيضًا علي نبوته، و أنه مؤيَّدُ مِن ﷲ بعصمتِه؛ كان هذا المسلك بعينه يحتج به أبا الفرجِ ابنَ الجوزي نبوةِ الخضرِ وصحَّحه، واحتج به الرُّمـَّانى أيضًا.
الرّابع: وهيَّ عن تفسير الخضرِ تأويل تلك الأفاعيل لموسى، ووضَّح له عن حقيقة أمره وماهية
علمِه، قال بعد ذلك ﴿رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ﴾ أي: ما فعلته من تلقاءِ نفسي، بل أُمِرْتُ به، وأوحيَ إلى فيه، فدلت هذه الوجوه على نبوته.

رابعًا: هل هو موجود في زماننا هذا؟

النقطة الأولى: من ذهب إلى القول بأنه حي:

هنا خلافُ في وجودِه إلى زماننا هذا، فالجمهور على أنه باقي إلى اليوم، وذلك لأقوال، قيل لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطُّوفانِ، فنالته دعوة ﷲ بطول الحياة، وقِيل لأنه شربَ مِن عين الحياةِ فحيي، وهذا غريب ولم يرد عنه خبر في الصحيح. وذكروا أخبارًا استشهدوا بها على بقائِه إلى الآن، وهناك حديث مطول رواه بن عساكر عن زكريا بن يحيي الوقار (إلا أنه من الكذابين الكبار وكذبه غيرُ واحدٍ من الائمةِ، ويقول بن كثير: والعجب أن ابن عساكر سكتَ عنه، وحديث أخر رواه بن عساكر، عن أبي داود الأعمى نُفيع وهو كذابٌ وضاع أيضًا، جميعها أحاديث لا تصح لها سندًا ولا متنًا.
فأما عن حديث وجود الخضر لما قُبض رسول الله ﷺ فأنكره البخاري وقال أبو حاتمٍ فيه: ضعيف الحديث جدًا منكره، كما قال حبان والعُقيلي أكثرها موضوع، وهذا كلامُ بن كثير.
في الحقيقة روي عشرات من الأحاديث حول بقاء الخضر حيًا وجميعها أحاديث لا تصح سندًا ولا متنًا ولا تُعتمد إلا من قِبلُ الشيعيين والصوفيين المبتدعين وغيرهم من الطوائف المتطرفة، لأنها لا صحة لها فلن أذكر تلك الأحاديث، فليس بها منفعة أو حقيقة أو معلومة تذكر.
ولكن ملخص تلك الأحاديث تقول بلقاء الخضر بأحد الصحابة الكرام، كـعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وذو النورين عُثمان بن عفان، ولقاء الخضر بالنبي نفسه ﷺ، وبقول بن كثير أن كل تلك الأحاديث تصدي لها الشيّخُ أبو الفرجِ ابنُ الجوزِي رحمه الله في كتابه (عُجالةُ المنتظرِ في شرحِ حالِ الخضرِ) تصدي ابنُ الجوزِي للأحاديث الواردة في ذلك المرفوعات، فبين أنها موضوعات، ومِن الأثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فبين ضعف أسانيدها، ببيان أحوالها، وجهالة رجالها، وقد اجاد في ذلك وأحسن الانتقاد.

النقطة الثانية: من ذهب إلى القول بأنه ميت:

أما الذين إلى أنه قد مات ومنهم البُخاري، وابو الحسين بن المنادي، وابن كثير، وابن الجوزي في كتابه (عُجالةُ المنتظِر في شرح حالِ الخضر) فيحتج بأشياء كثيرة احداهما قول الله ﷻ في كتابه ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾ فالخضر إن كان بشرًا فقد دخل في هذا العمومِ لا محالة، ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيحٍ، والأصل عدمه حتى يثبت، ولم يُذكر ما فيه دليل علي التخصيصِ من معصومٍ يجب قبوله.
الدليل الثاني: يحتج ابن الجوزي بقوله ﷻ ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾.
قال ابنُ عباسٍ: ما بعث ﷲ نبيًّا إلا أَخذ عليه الميثاقَ: لئِنْ بعثَ محمدٌ وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنَّه.
روى الإمام أحمد في «مسندِه» أن رسول الله ﷺ قال «والذي نفْسى بيدِه، لو أنَّ موسى كان حيًّا ما وَسِعه إلاَّ أن يتَّبعني».
وقد دلت هذه الآية الكريمة، أن الأنبياءَ كلَّهم لو فرض أنهم احياءٌ في زمن رسول ﷲ ﷺ، لكانوا كلهم أتباعًا له، تحت أوامرِه، وفي عموم شرعه، كما أنه ﷺ لما أجتمع معهم ليلة الإسراء، رُفِع فوقهم كلهم، ولما هبطوا معه إلي بيت المقدس، وحانت الصلاةُ، أمره جبريلُ عن أمر الله أنْ يؤمهم، فصلَّي بهم في محل ولايتهم، ودار إقامتهم، فدَلَّ على أنه ﷺ الإمام الأعظمُ، والرّسول الخاتم.
إن الخضر لم ينقل له بسند صحيح ولا حسنٍ تسكن النفس إليه؛ إنه أجتمع برسول ﷲ ﷺ ولم يشهدُ معه قتالًا وهذا رد على من يقول إنه كان على مقدمة جيش ذو القرنين وقاتل معه.
يقول الصادق المصدوق، فيما دعا لربه ﷻ واستنصره واسْتفْتحه على من كفره: «اللهم إنْ تَهلِكْ هذه العِصابةَّ لا تُعْبَدْ بعدَها في الأرضِ» تلك العِصابةُ كان تحتها سادة المسلمين يومئذ وسادة الملائكةِ، حتى جبريل، عليه السّلامُ، كما قال حَسانُ بنُ ثابت في قصيدةٍ له، في بيت يقالُ: أنه أفخر بيتٍ قالته العربُ:
وببِئْرِ بدْرٍ إذ يرُدُّ وجُوهَهم جِبْريلُ تحتَ لِوائِنا ومُحمدُ.
فلو كان الخضر حيًّا لكان وقوفُه تحتَ هذه الرَّايةِ أشرف مقاماته، وأعظم غزواته.

خامسًا: هل الخضر كان في بني إسرائىيل في زمن فرعون؟


عن أبي أُمامةَ أنَّ رسول الله ﷺ قال: «ألا أحدثكم عن الخَضِر؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «بينما هو ذاتَ يوم يمشي في سوق بني إسرائيل، أبْصره رجلٌ مُكاتَبٌ فقال: تصدَّق عليَّ بارك الله فيك، فقال الخضر: آمنت بالله، ما شاء الله من أمرٍ يكون ما عندي شيء أُعطِيكَهُ، فقال المسكين: أسألك بوجه الله لما تصدقت عليَّ فإنِّي نظرت السَّماحةَ في وجهِك ورجوت البركة عندَك، فقال الخضر: آمنت بالله، ما عندي شيءٌ أعطيكه إلَّا أنْ تأخذَني فتبيعَني، فقال المسكين: وهل يستقيم هذا؟ قال: نعم، الحقُ أقول: لقد سألتَني بأمرٍ عظيمٍ أمَا إنِّي لا أخيِّبُك بوجه ربي، بعني. قال: فقدَّمه إلى السَّوق فباعه بأربعِ مئة درهم، فمكث عند المشتري زمانًا لا يستعمله في شيءٍ، فقال له: إنَّك إنما اشتريتني التماس خيرٍ عندي فأوصني بعملٍ، قال: أكره أنْ أشقَّ عليك إنَّك شيخٌ كبيرٌ ضعيفٌ. قال: ليس يشقُّ عليَّ قال: فقم فانقل هذه الحجارة (وكان لا ينقلها دونَ ستةِ نفرٍ من يوم) فخرج الرجل لبعض حاجته، ثمَّ انصرف وقد نقل الحجارة في ساعةٍ، فقال: أحسنتَ وأجملتَ وأطقتَ ما لم أركَ تطيقه.
قال: ثمَّ عرض للرجل سفر، فقال: إنِّي أحسبك أمينًا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة، قال: فأوصني بعملٍ، قال: إنِّي أكره أنْ أشقَّ عليك، قال: ليس يشقُّ عليَّ، قال: فاضرب من اللبن لبيتي حتى أقدم عليك، قال: فمضى الرجل لسفره فرجع الرَّجل، وقد شيَّد بنائه.
فقال: اسألك بوجه الله ما سببك وما أمرك؟ قال: سألتني بوجه الله، ووجه الله أوقعني في العبوديَّة.
فقال الخضر: سأخبرك من أنا الخضر الذي سمعت به، سألني مسكينٌ صدقةً فلم يكن عندي شيء أعطِيَه، فسألني بوجه الله فأمكنته من رقبتي فباعني، وأُخبرك: أنَّه من سُئل بوجه الله فردَّ سائِله وهو يقدر، وقف يوم القيامة جلده ولا لحم له، يتقعقع فقال الرجل: آمنت بالله شققت عليك يا نبيَّ الله، ولم أعلم فقال: لا بأس أحسنت وأتقنت، فقال الرجل: بأبي أنت وأمي يا نبيَّ الله، احكم في أهلي ومالي بما شئت، أو اخترْ فأخلِّي سبيلك، قال: أحبُّ أنْ تُخلِّي سبيلي فأعبد ربي، فخلى سبيله، فقال الخضر: الحمد لله الذي أوقعني في العبوديَّة ثمَّ نجَّاني منه». رواه الطبراني وغيره.

‏عَنِ ‏‏ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ‏‏قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (‏‏لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي ‏‏أُسْرِيَ ‏‏بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا ‏جِبْرِيلُ،‏ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ ‏‏مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ ‏‏وَأَوْلادِهَا، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَما هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ ‏‏فِرْعَوْنَ ‏‏ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتْ ‏‏الْمِدْرَى ‏‏مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّه، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ ‏فِرْعَوْنَ:‏ ‏أَبِي؟ قَالَتْ: لا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ، قَالَت: أُخْبِرُهُ ‏‏بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلانَةُ؛ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ؛ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ‏ ‏تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ، قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا ‏‏أُمَّهْ؛‏ ‏اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ).
‏‏قَالَ ‏‏ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: ‏تَكَلَّمَ أَرْبَعَةُ صِغَارٍ: ‏‏عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ‏‏عَلَيْهِ السَّلام،‏ ‏وَصَاحِبُ ‏جُرَيْجٍ،‏ ‏وَشَاهِدُ ‏‏يُوسُفَ‏، ‏وَابْنُ ‏مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ.
أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/309) ، والطبراني (12280) ، وابن حبان (2903) ، والحاكم (2/496).

سادسًا: اسئلة وأجوبة هامة


السؤال الأول: ما هيَّ الاسماء الأخرى للخضر وهل من ضمنهم اسم صحيح؟
جواب: ذكرت له اسماء أخرى مثل (إيليا -المعمر- خضرون- ابو العباس) كل تلك الاسماء التي سمي بها الخضر لا يوجد بها دليلٌ يطمئنُ إليه القلب والعبرة ليست بالأسماء فإن ﷲ ﷺ وصفه في سورة الكهف بالرجل الصالح.
السؤال الثاني: معني هذا أن بليان ابن ملكان ليس اسم الخضر؟
جواب: إن اسم بليان لا بأس به وهو أقرب للصحيح وللوصف وهذا رأي ابن كثير والجوزي رحمهما الله، ولكن هذا لا يعني أن اسم الخضر والأكيد انه بليان.
قال سيد قطب رحمه الله في الظلال: (نحن امام مفاجآت متوالية لا نعلم لها سرًا، وموقفنا منها كموقف موسي، بل نحن لا نعرف من هو الذي يتصرف كل تلك التصرفات العجيبة، فلم يعنينا القرآن باسمه، تكملة للجو الغامض الذي يحيط بنا. وما قيمة اسمه؟ إنَّما يراد به أنه يمثل الحكمة الإلهية العليا، التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة، بل تهدف إلى اغراض بعيدة، لا تراها العين المحدودة، فعدم ذكر اسمه يتفق مع الشخصية المعنوية التي يمثلها).
شخص اتاه الله بعض علمه، واطلعه على الغيب ومعرفة الاقدار التي لا يعرفها إلا هو ﷻ فمن الوارد جدًا ان يكون اسمه الحقيقي غير معلوم للبشر، كونه سرًا من الأسرار الالهية التي لم يُطلع الله عباده عليهم بعد.

السؤال الثالث: إن لم يكن بليان اسمه ووصفه الله بالعبد الصالح فكيف تقول أن هذا اسمه الحقيقي؟
ﺟواب: اسمه الحقيقي هو وصفه «العبد الصالح» ولقبه هو الخضر كما قال الرسول ﷺ، أمَّ عن بليان فلا ضرر من إثبات أنَّ هذا اسمه باتفاق اهل العلم، ولكن الأساس أنَّ الخضر هو العبد الصالح، فلم يؤكد أسمه الحقيقي بعد.

السؤال الرابع: ما رأيك في الرأي الذي يقول بأن الخضر حيًّا بسبب دعوة أدم؟
الجواب: رأيي هو رأي ابن الجوزي رحمه الله (انه لو كان ولده لصلبه، أو الرابع من ولد ولده كما زعموا، وأنه كان وزير زي القرنين، فإن تلك الخلقة ليست على خلقتنا، بل مفرط في الطول والعرض. فكيف لمن رأوه وقالوا إنَّنا نري الخضر لم يذكروا هذا الوصف؟ قال رسول الله ﷺ (خلق الله آدم طوله ستون ذراعًا فلم يزل الخلق ينقص بعد) وما ذكر أحد ممن رأي الخضر أنه رآه وهو على خلقة عظيمة وهو من أقدم الناس.

السؤال الخامس: ما رأيك في من يقول بأنه حيَّا و الدليل أيضًا دفنه لأدم بعد الطوفان؟
الجواب: اتفق العلماء أن نوحًا حالما نزل من السفينة مات من كان معه، ثم مات نسلهم، ولم يبقي غير نسل نوح والدليل على هذا قوله ﴿وجعلنا ذريته هم الباقون﴾.
لو كان صحيحًا أن بشرًا من بني آدم يعيش من حين يولد إلى أخر الدهر، ومولده قبل نوح، لكان هذا أعظم الآيات والعجائب، وكان خبره في القرآن مذكورًا في غير موضع، لأنه أعظم الآيات الربوبية، وقد ذكر الله ﷻ من أحياه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وجعله آية فكيف بمن أحياه إلى آخر الدهر. ولهذا قال بعض أهل العلم: ما القى هذا بين الناس إلا الشيطان.

السؤال السادس: ولكن يقول بعض المشايخ والصالحين الكِبار برؤيتهم للخضر؟
الجواب: هؤلاء خارجين عن الشريعة ليس بينهم من هو صالح، غاية ما تمسك به من ذهب إلى حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأي الخضر. العجب والله، هل للخضر علامة يعرفه بها من رآه، وكثير من هؤلاء يغتر بقوله: أنا الخضر، ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله. فأين للرائي أن المخبر صادق لا يكذب؟ كما أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الله ولم يصاحبه وقال له: ﴿هذا فراق بيني وبينك﴾ فكيف يرضى لنفسه بمفارقته لمثل موسى، ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة، ولا مجلس علم، ولا يعرفون من الشريعة شيئًا، وكلٌ منهم يقول: قال الخضر، وجاءني الخضر، وأوصاني الخضر، فيا عجبًا له يفارق كليم الله تعالي، ويدور على صحبة الجهال ومن لا يعرف كيفية الوضوء؟

السؤال السابع: ولكن هل يعقل أن جميع من قالوا برؤيته كاذبون؟ وإن قلت ان الشيطان من فعل هذا فكيف له أن يتجسد على هيئة نبي، قولك بذلك تناقض لأنه سيكون اعتراف منك بأنه ولي و ليس نبي؟
الجواب: أخبرني كم مره رأيت الخضر؟ هل قرأت وصفًا لهيئته؟، إذا ليس من الصعب أن يأتي الشيطان بأي هيئة، لشخص ضعيف الإيمان ويقول له أنا الخضر.

السؤال الثامن: الآن قد وقعت في تناقض آخر، هل الصحابة ضعفاء الإيمان ليروا الشيطان متجسدًا في هيئة الخضر؟
جواب: ومن مِن الصحابة اخبرك بأنه رأي الخضر؟ أيظهر الخضر لهم ويقول يا علي، يا عمر، يا عثمان، يا أنس؟ وعندما التقى بموسى سأله قائلًا: موسى بني عمران؟، كما أنَّ جميع الأحاديث القائلة بظهوره للصحابة لا تصح سندًا ولا متنًا كما قلنا سابقًا، وأن قائلين تلك الأحاديث مجروحين عن الكثير من العلماء.

خاتمة: مصادر ومراجع بحث الخضر

خاتمة: انتهينا يا رفاق من الجزء الثاني والأخير في هذا البحث الشيق والجدلي، وجاوبنا على اسئلة هامة مثل قصة الخضر في الأديان الثلاثة، ونقاش حول خلوده ونبوته، بالطبع يجب عليك قراءة الجزء الأول وإلا لن تستفيد شيئا. وقد وضعنا في الجزء الأول من البحث قصته في الشريعتين والديانة، والجزء الثاني خلوده ونبوته ونسبه.

المصادر والمراجع:
  1. موسوعة البِدَايَةُ وَالنِهَايَة الجزء الثاني، من صفحة243 إلى صفحة 270: للحافظ ابن كثير رحمه الله.
  2. كتاب "عجالةُ المنتظر في شرح حال الخضر" لأبو الفرجِ بن الجوزي.
  3. كتاب الزهر النضر في حال الخضر للحافظ ابن حجر العسقلاني.
  4. من الصحيحان، صحيح مسلم وصحيح البخاري.
  5. كتاب تاريخ دمشق للحافظ بن عساكر ١٦/٤١٤،٤١٥ ثم أكمل.
  6. كتاب المجروحين لابن حبان 221/ الجزء الثاني، تهذيب الكمال 23/377.
  7. مسلم (٢٩٣٧)، ابن ماجه (٤٠٥٧). الترمذي (٢٢٤٠). عن حديث النواس.
  8. كتاب في ظلال القرآن للسيد قطب.
  9. تاريخ الأمم والملوك: تاريخ الطبري.
author-img
مٌدونة تفكير، تختص بتقديم كُل ما يخص الأدب والروايات والأبحاث العلمية والمقالات الثقافية، التي تعمل على زيادة فِكر الزائرين.
التنقل السريع